الفنّ- بين حرية التعبير، والالتزام بالرؤية والرسالة

ذات مرة، استمعت إلى عبارة في علم الجمال من أديبة وناقدة لامعة، مفادها أن "في العمل الفني لا يوجد صواب أو خطأ، بل يوجد فنٌّ خالص". هذه الكلمات أعادتني بذاكرتي إلى خمسينيات القرن العشرين، تلك الحقبة التي شهدت صراعًا فكريًا حادًا بين مدرستين فنيتين متباينتين. المدرسة الأولى كانت تشدد بقوة على ضرورة التزام الفنان، سواء كان أديبًا أو شاعرًا أو رسامًا، بأن يكون عمله الفني هادفًا، وأن يحمل رسالة واضحة ومحددة. أما المدرسة الثانية، فقد عُرفت بمدرسة "الفن من أجل الفن"، وهي ترى أنه لا يجوز إطلاقًا الحكم على قيمة الفن بناءً على الفلسفة التي يحملها الفنان أو مواقفه السياسية. كما تؤكد هذه المدرسة على أن الفن يجب ألا يخضع للسياسة، أو يُستغل لتحقيق غايات سياسية معينة.
"الفنّ من أجل الحياة"
كان الماركسيون والثوريون من أشد المنتقدين لمدرسة "الفن من أجل الفن"، وقد بذلوا جهودًا مضنية لإبعاد هذه المدرسة، وما تحمله من رؤى مغايرة، عن السطحية والتبسيط والتحريض الأيديولوجي المباشر. ودعوا إلى ضرورة أن يتضمن العمل الفني هدفًا ساميًا، مع الحفاظ في الوقت نفسه على أعلى مستويات الشعرية والجمالية والإبداع.
ومع ذلك، بقيت الأعمال الفنية التي أبدعت فنًا خالصًا ورفيعًا - وليس مجرد بيانات سياسية أو تقارير مباشرة - نادرة نسبيًا من جانب المدرسة المعارضة لمدرسة "الفن من أجل الفن".
وعلى الرغم من ذلك، ظلت مدرسة الفن الهادف والملتزم تحتل مكانة مرموقة في فلسطين والبلاد العربية، فقد تخرج فيها العديد من الشعراء والأدباء الذين ترسخوا في الذاكرة الأدبية، أو استلهموا تجاربهم الأولى من معينها الثري، ومن هؤلاء الرموز في فلسطين: عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، وتوفيق زياد، ومحمود درويش، ومعين بسيسو، وسميح القاسم، إلى جانب نخبة من الشعراء العرب الكبار، مثل: محمد مهدي الجواهري، وبدر شاكر السياب، وفي مجال القصة: يوسف إدريس، وغسان كنفاني.
مقولة في علم الجمال سمعتها من كاتبة وناقدة أدبية، تقول: "في العمل الفني لا يوجد صح وخطأ، يوجد فنّ فقط"
العمل الفني، في جوهره، يتكون من عنصرين أساسيين هما الشكل والمحتوى. ومن خلال هذا التفاعل الديناميكي بين الشكل والمحتوى، تتولد نتيجة واتجاه معين، حتى لو لم يكن الفنان قد فكر مسبقًا في النتيجة النهائية أو الاتجاه الذي سيصب فيه عمله. فالفنان يقدم عملًا فنيًا يستوحي لحظة آسرة من حركة الإنسان، أو المجتمع، أو الطبيعة، أو ربما لحظة خيال جامحة، ويقوم بتجريد تلك اللحظة المثقلة بالمعاني من الحياة، أو الواقع الاجتماعي، أو الحدث المعقد.
صحيح أن الفنان المبدع قد لا يفكر بشكل واعٍ في الرسالة التي سينقلها إلى المتلقي من خلال لوحته أو قصيدته أو قصته، قبل أن يبدأ في إبداعها وإخراجها بحلتها النهائية. ولكن بمجرد أن يسلمها إلى الجمهور أو إلى عالم الفن، تنفصل علاقتها بشخصه أو بآرائه السياسية أو التزاماته. وعند الحكم على العمل الفني، يتم التركيز على شكله ومحتواه، وعلى حركته الداخلية الخفية.
وبالتالي، فإن العمل الإبداعي لا بد أن يحمل في طياته هدفًا ما، أو توجهًا معينًا، يمكن للمتلقي أن يتفاعل معه ويحاول فهمه، أو أن يتقبله الناقد الفني أو الأدبي، ليناقشه ويكشف ما يستطيع من خفاياه وأسراره، وما يريد أن يعبر عنه وإيصاله للمتلقي، حتى لو لم يقصد المبدع التأويلات التي قد يذهب إليها المتلقي أو الناقد.
الشكل والمحتوى
إن تقييم العمل الفني لا ينبغي أن يفرض على المبدع الالتزام أو عدم الالتزام بموقف معين من الحياة، أو من الصراعات والتناقضات، والتعقيدات الناجمة عن حراك المجتمع، ومعاناة الأفراد وصراعاتهم المختلفة.
فقد يدعي المبدع، أو يحاول، أن يسمو فوق كل ما هو صراعات ومجتمعات وفلسفات وأفكار ورؤى، بهدف إخراج عمل فني لا تحكمه أفكار أو سياسات مسبقة. ولكن بمجرد أن يصبح إنتاجه عملًا فنيًا متكاملًا، سيجد نفسه منخرطًا، شاء أم أبى، في معترك الحياة والموت، والخير والشر، والصحيح والخطأ، أو أمام مسؤوليته الضميرية والأخلاقية.
إن الإبداع، حين يكتمل وينضج، ويظهر للناس بحلته التي أبدعها وصاغها له مبدعه، يخرج ليتحدى وينافس، ويصبح جزءًا لا يتجزأ من صراع الإنسان اليومي، وصراع المجتمع والشعب، والأفكار والمواقف، منفصلًا في الوقت ذاته عن الذات التي أبدعته. وليس هذا فحسب، بل إن هناك العديد من الأعمال الفنية التي انتهى بها المطاف إلى أن يكون مبدعها في وادٍ، وهي في وادٍ آخر مغاير تمامًا.
وعلى هذا المنوال، تبدو قصص بلزاك في وادٍ، بينما بلزاك في السياسة والفكر في وادٍ آخر. وينطبق الأمر ذاته على سرفانتس. ومن يدقق النظر أكثر، سيكتشف أن حالة هذا الانفصام تمثل سمة بارزة في أعمال العديد من الكتاب الكبار وأعمالهم الاستثنائية.
فعلى سبيل المثال، كان بلزاك محافظًا وملكيًا، ولكن عمله الفني كشف عن تفسخ الطبقة التي ينتمي إليها، ومسارها المحتوم نحو الزوال. وهو يتعامل مع شخوصه وحركتهم في العمل الفني بمنتهى الواقعية. وبالمثل، كان دون كيشوت، وهو يصارع طواحين الهواء، يحكم في الواقع على نهاية طبقة الإقطاع التي كان سرفانتس من أنصارها في السياسة. وكذلك محمود درويش، وهو يبدع قصيدة "عابرون في كلام عابر"، يختلف تمامًا عن محمود درويش عضو اللجنة التنفيذية التي كانت تسعى إلى حل توافقي مع الكيان الصهيوني.
لذا، فإن الحكم الفني على الإبداع لا يرتبط بأي شكل من الأشكال بأفكار وسياسات والتزامات مؤلفه. ومن ثم، ينظر إلى العمل الفني ككائن مستقل عن كل ما عداه. ولكن في الوقت نفسه، لا يوجد عمل فني مستقل بذاته تمامًا، بل يعبر دائمًا عن قراءة معينة، ومحتوى معين، وحتى شكل معين. وإلا فكيف يمكن تقويمه نقدًا، إذا لم يتم تحليل الشكل والمحتوى، والهدف الذي يسعى إليه، والرسالة التي يحملها؟
رؤية ورسالة
إن الأعمال الشعرية والفنية المختلفة، يتطلب الانتباه إلى ما تحمله من سياسة وأيديولوجية، ومعرفة ورؤية، وما توصل إليه من هدف وإيحاء، مسألة ضرورية وهامة، سواء حدث ذلك عن وعي وإدراك، أم كان بشكل عفوي وتلقائي.
فعند النظر إلى عالم قصيدة "عابرون في كلام عابر"، سنجدها تختلف اختلافًا جوهريًا عن عالم قصيدة "حالة حصار". وهكذا، نجد أن القصائد في المرحلة الأولى لدرويش، مثل "سجل أنا عربي"، تنتظم في عقد واحد متجانس، وكذلك المرحلة الثانية، مثل قصيدة "أحمد الزعتر"، خصوصًا من الناحية الشعرية الفنية. أما ديوانه الأخير "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي"، فلكل قصيدة فيه عالمها الخاص، وبين عالم وآخر جدار، قد يكون سميكًا أو شفافًا.
صحيح أن الفن لا يخضع لمحاكمة بمعيار "صح أو خطأ"، ولكنه يخضع للتقييم على أساس ما أراد قوله، وما هو موقعه في صراعات وتناقضات عالم الإنسان، والمجتمعات والشعوب والأمم.
فإذا تجنبنا استخدام عبارة "يحاكم" التي قد تثير شبح "محاكم التفتيش"، فيمكننا استخدام عبارة "يقوّم" لتحديد اتجاهه، وما يقوله، وما يريده أن يعبر عنه، سواء قصده المبدع أم لم يقصده. فالعمل الفني هو أطروحة أو قضية قائمة بذاتها، ولكنه لا يخضع للقضاء، وإنما لما يعبر عنه، وهو مستقل تمام الاستقلال حتى عن مبدعه.
أما الأعمال الفنية التي تحمل سمة "الفن من أجل الفن"، أي دون أن يكون لمبدعها هدف مسبق، أو سياسة يريد أن يوصلها، أو موقف فلسفي من الكون والحياة، ففي هذا السياق تبرز أفلام هوليود كمثال جلي لتوضيح هذه الفكرة.
الفن ليس معرفة محضة
فعندما تشاهد فيلمًا، قد تجده قد بلغ ذروة الإتقان من الناحية الفنية، ولكنه لا يتضمن في الوقت نفسه موقفًا مباشرًا يسعى إلى إقناعك به. ومع ذلك، لا مفر من أن ترمز شخصياته إلى نماذج إنسانية، وفي الغالب ذات هوية عرقية ووطنية وطبقية، وانتماء لدين أو مذهب معين. ولكن مع اكتمال القصة أو الرواية، خطوة بعد خطوة، وصولًا إلى خاتمتها، ومع تعدد النهايات المحتملة، لا بد للعمل الفني أن يقدم لك معرفة ما. ولكن الفن ليس مجرد معرفة سطحية، بل يتضمن مستوى معينًا من المعرفة العميقة حول الإنسان والحياة، والانتماء لفئة عرقية أو دين أو لغة.
الأهم من ذلك، أن هناك دائمًا رسالة ما مضمنة في العمل الفني، ورؤية معينة للعالم. فعلى سبيل المثال، قد يصل الفيلم إلى نتيجة مفادها أن الحياة عبثية ولا معنى لها، أو أنها مجرد تكرار ممل لمصير محتوم. وهكذا تتعدد الاحتمالات والنهايات والرؤى، ولكنها في النهاية ستأخذنا إلى إحدى هذه النهايات، أو إلى حالة من الضبابية والغياب.
لذلك، ليس من الصواب القول بأن الفن لا يخضع للمحاسبة والتقييم، حتى لو لم يكن ذلك من منظور سياسي، بل من منظور فلسفي، ومن خلال النظرة إلى الحياة، والمعنى والوجود والمصير.
إن الفن يشبه الفكر والسياسة، حتى وإن لم يعامل بنفس الطريقة. فمن حيث كونه فنًا، لا بد لكل عمل فني من شكل ومحتوى، وأن يحمل معنى ما، واتجاهًا ما، وإيحاء ما، وذلك على الرغم مما فيه من مكرٍ ودهاء، وتلك هي الخاصية المميزة للفن بامتياز.
